دماء على شفرة الخوارزمية.. الذكاء الاصطناعي يتحول إلى سلاح قاتل في غزة

دماء على شفرة الخوارزمية.. الذكاء الاصطناعي يتحول إلى سلاح قاتل في غزة
آثار الحرب على غزة

في ظل ما يشبه صمتاً دولياً مطبقاً -يكاد يُعد تواطؤاً مقنّعاً- جاء تقرير الأمم المتحدة الأخير ليقلب الطاولة على وجه العدالة، ويُسلّط الضوء على تورّط أكثر من 60 شركة عالمية كبرى في دعم الاستيطان غير الشرعي والعدوان المتواصل على قطاع غزة، التقرير الذي أعدته المحامية الإيطالية فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يعكس نهجاً دمجت فيه الشهادات الموثقة، البلاغات الحكومية، ودراسات حقوقية وأكاديمية عالمية، لصياغة وثيقة اتخذت من المعاناة الفلسطينية "مرآة قاتمة" تُظهر الوجه الخفي للعولمة القاتمة، حيث تتقاطع الجيوش مع الخوادم، والصواريخ مع الذكاء الاصطناعي، والمستوطنات مع الأسواق الرقمية.

يؤكد التقرير أن الإبادة الجماعية لم تكن "عملاً ميكروسكوبيّاً"، بل مجزرة ممنهجة تحقق مكاسب مالية ضخمة، فـ"الإبادة مستمرة لأنها مربحة لكثيرين"، ويربط ذلك بين اقتصاد الحرب واستغلال الكارثة كأساس تجاري باسم التطبيع والربحية، بما يجعل ما يجري في غزة نموذجاً معولماً لاستثمار الموت. ووفق بيانات وزارة الصحة في غزة، فُقِد أكثر من 56,000 فلسطيني منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى تاريخ نشر التقرير في شهر يوليو 2025، وأكثر من 130,000 إصابة، في حين دُمّرت نسبة تقارب 80% من البنية التحتية، وحُوّل القطاع إلى كومة من الركام والدخان.

التقرير لا يكتفي بذكر الأسماء فحسب، بل يكشف شبكة مصالح صناعية -خدمية- تكنولوجية تدعم آلة القتل: شركات سلاح مثل لوكهيد مارتن، ليوناردو، كاتربيلر، وHD هيونداي، متهمة بتزويد الجيش الإسرائيلي بطائرات، معدات هندسية، وآليات هدم تُستخدم في اجتياح المدن الفلسطينية.

تدخل عمالقة التكنولوجيا

ومع ذلك، يحفل التقرير بخشية خاصة من تدخل عمالقة التكنولوجيا، فقد تم توجيه اتهامات إلى Alphabet (غوغل)، أمازون، مايكروسوفت، IBM، وPalantir لتقديم خدمات سحابية وأدوات مراقبة بالذكاء الاصطناعي تُستخدم في ما يعرف بـ"القتل الخوارزمي" أو "الاستهداف الذكي"، حيث تُحلل بيانات ضخمة لتحديد الأهداف المحتملة، وتشير معلومات من مصادر موثوقة إلى أن Palantir توفّر أنظمتها لاستخدامها من قِبَل المؤسسات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية لتوجيه ضربات دقيقة عبر الذكاء الاصطناعي، ما يثير أسئلة قانونية وأخلاقية حول شرعية استخدام هذه التكنولوجيا في قتل البشر خارج إطار القانون.

وتعود الإشارة إلى كاتربيلر التي تعرّضت لانتقادات متكررة لاستخدام جرافاتها في هدم المنازل الفلسطينية منذ سنوات، وتحديداً بعد قتل الناشطة الأمريكية راشيل كوري في 2003 بجرافة من طرازها.

واكتشف التقرير كيف أن الصمت الدولي يشكل تحالفاً غير معلن: مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يستقبل التقرير، لكنه يفتقر لصلاحيات تنفيذية ملزمة، ويواجه رفضاً من إسرائيل والولايات المتحدة اللتين انسحبتا منه في 2024 واتهمتا التقرير بالانحياز ، وهنا يمكن القول إن التاريخ يعيد نفسه بأقنعة جديدة، فكما سدّد نظام الأبارتهايد أرباحاً لقطاع الصناعات من خلال المجزرة، تستمر الحال نفسها اليوم في قطاع غزة، حيث الحرب الدموية تمثل الأكبر في القرن الحادي والعشرين.

أما من الناحية الإنسانية، فيقدّر تقرير "Humanitarian Situation Update #302" أن ما بين 7 أكتوبر 2023 و2 يوليو 2025 استشهد 57,012 فلسطينياً، وأُصيب 134,592، يشمل ذلك 640 وفاة أثناء محاولات الحصول على الغذاء وحدها، وأكثر من 4,488 إصابة ضمن هذه الحالات ، ويشير تحديث سابق (24 مارس) إلى 50,021 وفاة حتى 22 مارس 2025، تضمنت 15,613 طفلاً (31%) و8,304 نساء (17%) و22,265 رجالاً (44%) و3,839 من كبار السن (8%)، مع إصابة 33,900 طفل منذ بداية الصراع. ومن اللافت أن 7% من سكان غزة قد قتلوا أو تأذوا، مع أكثر من 25,000 بحاجة لعلاج وتأهيل طويل المدى، و4,700 حالة بتر منها 850 طفلاً.

دراسة نشرتها مجلة The Lancet عام يناير 2025 تشير إلى أن الإصابات الناتجة عن العنف الصدامي بين أكتوبر 2023 ويونيو 2024 تجاوزت 64,260 وفاة، بنسبة تبلغ 2.9% من عدد سكان القطاع قبل الحرب. كما يسجّل الباحثون أن تقديرات الصحة في غزة قد تقلّصت بنحو 41% من العدد الفعلي، ما يعني احتمالية تجاوز عدد الوفيات 70,000 بحلول أكتوبر 2024 . وبحسب تقدير The Economist في مايو 2025، فإن عدد القتلى هو أعلى بـ46–107% من الإحصاءات الرسمية، ما يضع نطاق الضحايا بين 77,000 و109,000، أي ما يعادل 4–5% من سكان غزة قبل الحرب 

وبينما تطالب المنظمات الإنسانية والمراقبون الدوليون بوقف الاستهداف للمدنيين، أشارت أحدث التقارير إلى أن مراكز توزيع المساعدات شهدت استشهاد 82 فلسطينياً بسبب قصف مباشر أو إطلاق نار، من بينها 38 شخصاً كانوا ينتظرون الطعام، حسب وزارة الصحة كذلك أفادت منظمة الصليب الأحمر بارتفاع عدد الضحايا المدنيين إلى 630 وإصابة 2,353 بين 25 يونيو و2 يوليو، وذكر التقرير أن الهجمات الأخيرة قضت على قدرة النظام الصحي المتفكك على الاستجابة لحالات الطوارئ 

يشير التقرير إلى مشروع سحابي مشترك يُعرف بـ"نيمبوس" (Nimbus) أطلق في 2021 بين غوغل وأمازون والحكومة الإسرائيلية، يُستخدَم لتخزين ومعالجة البيانات العسكرية والأمنية، ما يضفي عليه صبغة مزدوجة بأنه أداة تقنية للدمار تحت غطاء سحابي مدني، وهذه المفارقة تؤكد كيف أن الحوسبة السحابية الثورية قد تحولت من خدمة البشرية إلى خدمة آلة تدمير.

المسؤولية الأخلاقية والقانونية

ومع كل هذه المعطيات، يحث التقرير على تحمل عالمي للمسؤولية الأخلاقية والقانونية، داعياً إلى مقاطعة اقتصادية فعالة ضد الشركات المتورطة، إنهاء كافة أشكال التعاون معها، وملاحقة مسؤوليها التنفيذيين أمام المحاكم الدولية وتحديداً المحكمة الجنائية الدولية، مع تفعيل مبدأ العدالة عبر الحدود المنصوص عليه في نظام روما الأساسي. ويذكّر ألبانيز بضرورة تطبيق ما طُبق على روسيا في أوكرانيا من عقوبات ومحاكمات على إسرائيل والداعمين لها، لضمان عدالة كونية غير انتقائية.

ويُبيّن التقرير أنه، على الرغم من أن الشركات تتباهى بمسؤوليتها الاجتماعية واقتصاديات خضراء، فإنها تمارس ازدواجية صارخة حين تموّل قتل المدنيين وتدمير البنى الإنسانية، في حين تقلّص وظائف موظفيها بحجة أزمة السوق، لكنها تُبرم عقوداً بمليارات الدولارات مع وزارات الدفاع.

ويضيف أن ضغط الرأي العام يمكن أن ينتج عنه إجراءات قانونية أوروبية بالفعل، مثل تلك التي شُهدت في بلجيكا وإسبانيا ضد قطاع الشركات الداعمة للفصل العنصري، مع اندفاع حضري محلي من قبل النقابات والطلبة في أوروبا وأمريكا قرب بؤر الحراك المدني، لتنشيط مقاطعة شعبية تضغط على هذه الشركات اقتصادياً وتدفعها لإعادة حسابات استراتيجية.

ويدقّ التقرير ناقوس الخطر، ليس بوصفه أوراقاً تدين، بل كوثيقة مرجعية ستقدّم أمام مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة، ومن المتوقع أن تعتمدها النيابات العامة كمادة أدلة أمام المحكمة الجنائية الدولية. ويؤكد أن آليات التنفيذ رغم محدوديتها، فإن الضغط القانوني المستمر مع فتح تحقيقات أوروبية، قد يؤدي إلى ملاحقات لمسؤولين تنفيذيين ومتورطين ماليين في هذه الشركات، على غرار ما حدث مع شركات دعمت نظام الأبارتهايد.

لا يمكن تجاهل أن مستندات الأمم المتحدة تأتي في ظل أزمة طبية وإنسانية غير مسبوقة. فالقطاع الصحي يعاني انهياراً تاماً؛ فقد تأثر نحو 90% من المباني، وتم تدمير 95% من المدارس و92% من المساكن، في حين تسبب نقص المياه والرعاية بانفجار في الأمراض. كما تم توثيق ألف تقارير لهجمات على مرافق صحية، خلفت أكثر من 886 قتيلًا و1,355 جريحاً من العاملين الطبيين.

تصعيد عدواني ممنهج يهدد الاستقرار العالمي

أكد الدكتور سيد مكاوي، أستاذ العلوم السياسية، أن ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات متكررة بحق الفلسطينيين لا يُعد مفاجئًا في ظل الدعم الغربي العلني، وعلى رأسه الولايات المتحدة، التي توفّر غطاءً سياسيًا ودبلوماسيًا لدولة إسرائيل، ما يمكنها من الاستمرار في انتهاكاتها الممنهجة داخل الأراضي الفلسطينية، وتوسيع نطاق عدوانها ليشمل دولًا مثل لبنان وسوريا واليمن وإيران، تحت ذريعة "الدفاع عن النفس".

وأوضح مكاوي، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، أن الدعم الأمريكي لا يقتصر على الجانب السياسي، بل يمتد إلى الشراكة العسكرية المباشرة، إذ تواكب كل موجة عدوان إسرائيلية تحركًا أمريكيًا بإرسال حاملات الطائرات والأساطيل لحماية إسرائيل، ليس من تهديد فعلي، بل من تبعات أفعالها. بل إن القوات الأمريكية، بحسب مكاوي، تشارك أحيانًا بشكل مباشر في تنفيذ هذه الاعتداءات، كما حدث في اليمن وإيران، ووصف هذا النهج بـ"الاستعمار الجديد في نسخته الترامبية"، الذي استبدل الدبلوماسية التقليدية بـ"دبلوماسية القاذفات الاستراتيجية" مثل "بي-2"، حيث إما تخضع الدول لإرادة واشنطن وحلفائها، أو تواجه التهديد بالقصف.

ودعا مكاوي إلى تحرك عاجل من قبل المجتمع المدني العالمي لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية، مشددًا على أن البداية تكون بتوثيق الجرائم وفضحها على المستوى الإعلامي والسياسي، لتُتبع لاحقًا بإجراءات قانونية ومقاطعات اقتصادية تستهدف الشركات والمؤسسات المتورطة في دعم الاحتلال. وأكد أن الصمت الدولي على هذه الانتهاكات يرسّخ سياسة الإفلات من العقاب، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للمنظومة القيمية الدولية.

وأشار إلى أن السياسات الأمريكية لا تقتصر في آثارها المدمرة على منطقة الشرق الأوسط، بل تمتد لتقويض الأمن الأوروبي، كما تبيّن من تداعيات تدخلها في الأزمة الأوكرانية. وأكد أن ما يحدث ليس ردودَ أفعال عشوائية، بل جزء من استراتيجية شاملة تستهدف تفكيك الشرق الأوسط وإعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية عالميًا.

كما لفت إلى أن الاستقالات داخل إدارة بايدن احتجاجًا على الجرائم في غزة، ومستوى التنسيق العسكري الذي كُشف عنه في الهجمات على إيران، كلها دلائل واضحة على أن هذه الاعتداءات ليست دفاعًا عن النفس، بل أعمال هجومية منظمة تخدم أجندات توسعية وهيكلية.

وشدد مكاوي على الدور المحوري الذي يجب أن تضطلع به النقابات والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني العالمي، في كشف الجرائم المرتكبة في فلسطين ولبنان واليمن، مؤكدًا أن مرتكبي هذه الجرائم لا يفعلون ذلك بدافع الضرورة، بل لأنهم يملكون القوة والثقة بأنهم لن يُحاسَبوا.

واختتم بالتأكيد على أن المعركة ضد منطق "القوة تصنع الحق" هي معركة طويلة تحتاج إلى جهد منظم إقليمي ودولي، وستطال تداعياتها داخل المجتمعات الغربية نفسها، حيث تميل الأنظمة التي تمارس العدوان خارجيًا إلى قمع الحريات داخليًا، ودعا المجتمع المدني العالمي إلى النهوض بمسؤوليته في مواجهة هذه السياسات التي تهدد العدالة وحقوق الإنسان، مؤكدًا أن الصمت لم يعد خيارًا، وأن العالم يقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم بين المبادئ والفوضى.

المقاطعة الاقتصادية: أداة فعّالة بيد المجتمع المدني

من جانبه، شدد الدكتور إحسان الخطيب، أستاذ العلوم السياسية في جامعة "موراي ستيت" وعضو الحزب الجمهوري الأمريكي، على أن النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي لم يعد حكرًا على الحكومات أو المؤسسات الدولية، بل بات من مسؤولية المجتمع المدني العالمي، عبر أدوات فعالة على رأسها حملات المقاطعة، ونشر المعلومات، والضغط المباشر على مراكز القرار داخل الشركات المتورطة بدعم إسرائيل.

وأوضح الخطيب، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن من أبرز الوسائل السلمية المتاحة اليوم رفع الكلفة السياسية والاقتصادية للاحتلال، من خلال تحركات منظمة تبدأ بنشر المعلومات، مرورًا بالتفاعل مع الشركات المعنية، وصولًا إلى الضغط على البلديات والحكومات المحلية التي تتعامل معها.

وأشار إلى أن أحد الأساليب الذكية والفعالة يتمثل في شراء أسهم في هذه الشركات لحضور اجتماعات المساهمين والتأثير على قرارات مجالس الإدارة من الداخل. كما دعا إلى التواصل مع الجهات المحلية لتقديم معلومات موثقة تُظهر تورط هذه الشركات في نظام فصل عنصري أو في انتهاكات حقوقية جسيمة.

وأكد الخطيب أن للنقابات والمنظمات الحقوقية تأثيرًا معنويًا كبيرًا يمكن استثماره في الضغط على هذه الشركات، ليس فقط بالمقاطعة، بل من خلال تعزيز وعي المجتمعات بحجم التورط الاقتصادي مع مؤسسات دولة الاحتلال، وأوضح أن فضح هذه الشركات يضعها في موقع الدفاع، ويدفعها لإعادة النظر في سياساتها للحفاظ على سمعتها ومصالحها.

ولفت إلى أن منظومة الاحتلال الإسرائيلي ليست مجرد كيان سياسي أو عسكري، بل منظومة متكاملة من المصالح والمؤسسات والكيانات الاقتصادية، موضحًا أن كل عنصر في هذه المنظومة قد يبدو صغيرًا بمفرده، لكن تأثيره الجماعي هو ما يمد الاحتلال بالاستمرارية.

وأشار إلى شركة Airbnb كمثال، إذ إن استمرارها في تقديم خدماتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة يُضفي شرعية تجارية على الاحتلال، رغم أن غيابها لن ينهيه.

وبيّن أن اللوبيات السياسية والاقتصادية، وعلى رأسها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، تمثل تحديًا كبيرًا أمام هذه الجهود، إلا أن طريق المقاطعة، رغم صعوبته، يُعد من أنجع الوسائل اللاعنفية المتاحة، خاصة مع تراكم الضغط وتزايد وعي الشعوب.

واختتم الخطيب تصريحه بالتأكيد على أن هذه المبادرات، وإن لم تُنهِ الاحتلال بمفردها، فإنها تُغيّر البيئة المحيطة به، وتدفع الشركات لإعادة تقييم مواقفها، وتُحمّلها تبعات أخلاقية واقتصادية، مشددًا على أن الوعي المجتمعي المنظم هو الأساس لأي تحوّل حقيقي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية